السبت، يناير 14، 2012

فَلَنا وربِّك للحُروفِ قَدَاسةٌ -- نوري الوائلي

هل زج في الأمل القنوط سقاما *** وانساب في وهج الدما آلاما
هل أشبع القلب الأنين مواجعا
*** واستل من عزم الكرام زماما
وأحال رفض الطامحين تخاذلا
*** وأغتال في صدر الغزاة هماما
هل بات يفرع في الصخور وجدوها
*** شوك يؤل في الصدى أنغاما
كلا فعزم الشامخين إلى العلا
*** يبقى لدرب لصابرين إماما
لن تستكين إلى المواجع أنفس
*** عزمت بأن تعلو القفار غماما
عزمت بأن تهب الحياة شواهدا
*** وتظل في أرض الوغي أعلاما
هذه المحابر قد أجاد نباحها
*** لغوا يجاهر في العقول فصاما
ملأت فضاءات التواصل ألسن
*** صبغت معايبها الحياة ظلاما
قد زاغت الأقلام حين نباتها
*** يمتص من بحر الذري أوهاما
قد خاب من باع الحروف لعالم
*** يضني التقاة ويرفع الأبراما
لا تتركن محابرآ قد ألهبت
*** نهج الكرام حماسة و هياما
لا تجعلوا لليأس من فرط الأذى
*** سوطا يقصر للردى الأعواما
الصابرون على المصائب إنما
*** من صبرهم يأتي الرجا إكراما
عجبا لآهات الزمان فمالها
*** غير التقاة صحابة وخصاما
لا تغرق السفن الرياح إذا غدت
*** فيها الصوارم للتقاة مقاما
سيظل صوت الصادقين مدويا
*** ويزيح عن وجه النفاق لثاما
فلن تجف عن العطاء نحورنا
*** أو أن تعيب عقولنا لأقلاما
مند الطفولة نستقي فإذا بنا
*** نستدرك الأفعال والأحكاما
إن قال ناقص ما يشتهي
*** فكلامه يعلوبنا الأجراما
فلنا وربك للحروف قداسة
*** لا نبتغي من نظمها الأهراما
بل نبتغي لطف الجليل بحرفنا
*** فرضاؤه عنا هدى وسلاما
ما أقصر الدنيا وفي أعناقنا
*** همم يطارحها الفلاح غراما
ما مات حرف للسماء معنون *** بل مات سفر ينشد الآثاما
سيطل في كون الخلود لساننا
*** رطبا نديا يختم الأختاما
سنظل فرسانا لكل ملمة
*** كونا نفيض مودة و وئاما
فلنا الكلام وإن تسد شفاهنا
*** ولا سمنا يغدو الأثير كلاما
لا تحتوينا في المصائب جفلة
*** فيقيننا قد صاغها أحلاما
لم تبخل الدنيا علينا كربها
*** فسقتنا في حلو الشراب سماما
القلب يصمت والأنامل نبضها
*** يبقى صريرآ يوقط النياما
فرض على أهل الهدى أن يكتبوا
*** للحق فأسآ تكسر الأصناما
لا توقف الحبر المواجع إنما
*** من عسرها صاغ الفؤاد سهاما
لا يسبق الصبر البلاء وإنما
*** الصبر يسبق في الردى الإقداما

الجمعة، أكتوبر 21، 2011

لمحات من مسيرة حزب العدالة و التنمية التركي

بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله, و بعد...

فهذه لمحات من مسيرة حزب العدالة و التنمية التركي, اقتبستها بتصرف من كتاب قصة أردوجان للدكتور راغب السرجاني, فيها عبر تنفع أحزابنا الناشئة - بعون الله -


* انتخابات 2002 و ما بعدها...

1- كان لأعضاء حزب العادلة و التنمية تاريخ مشرف في خدمة البلد, و لم تتلطخ سمعتهم بأي شبهة فساد, و كان وصف حزب العدالة و التنمية في الأوساط الإعلامية المحلية بأنه *الحزب الأبيض* نسبة إلى مصداقيته و نزاهة قيادته. و في هذا التوقيت كانت هناك دعاوى فساد عديدة رُفعت ضد زعماء أحزاب آخرين.

2- راهن الحزب على سياسة النفس الطويل في التطوير, و تأجيل طرح المحاور المثيرة, و إعداة ترتيب الأولويات, و البدء بقضايا المعاش, و حقوق الإنسان, و احترام القانون, و مقاومة الفساد في نخبة الحكم.

3- الفريق الاقتصادي في الحزب كان لديه 300 مشروع اقتصادي جاهز للتنفيذ قبل وصول الحزب إلى السلطة

4- الانحياز للفقراء و همومهم!

5- الاهتمام بالصناعة المحلية و تشجيع أصحاب رؤوس الأموال الأتراك

6- الانفتاح الاقتصادي مع الدول الإسلامية

7- الاهتمام بالجانب الإعلامي (العامل الذي أهملته تجربة أربكان السابقة)

8- إطلاق قوى المجتمع المدني/القطاع الخير و رفع وصاية الدولة عليها

9- الإنجاز المستمر


* انتخابات 2007 و ما بعدها...

10- تشجيع الأتراك على التناسل و التكاثر

11- المزيد من التقويض للعلمانية *بالقانون* :)

12- تصفير المشكلات الداخلية و الخارجية و إقامة علاقات متوازنة مع دول الجوار


* انتخابات 2011 و ما بعدها...

13- تعلمت الأحزاب الأخرى بعض الدروس من حزب العدالة و التنمية, و بدأت تعرض مشروعات سياسية و تنموية :)

14- كالعادة, سبقهم حزب العدالة و أعلن أنه يعتزم تعديل الدستور!

15- تعهد الحزب بجعل تركيا واحدة من أكبر 10 اقتصاديات في العالم بحلول عام 2023, و جعل هذا الأمل هو شعار حملته الانتخابية

16- أغلب الصحف و الفضائيات كانت تدعم الأحزاب الأخرى - لا سيما حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك - و بدا واضحا أن هناك رسائل موجهة تبثها وسائل الإعلام للتقليل من إنجازات حزب العدالة و التنمية, و التركيز على السلبيات, و لكن المؤكد أن الإعلام كان في واد, و الشارع كان في واد آخر!

17- حملة طرق الأبواب! عدد من المتطوعين في الحزب (بلغوا في إسطنبول وحدها 300 ألف شاب) طرقوا كل شقة في تركيا للنقاش مع المواطنين و التعريف بإنجازات الحزب و خططه للمستقبل!


أهم لمحة, و تركتها للنهاية لأهميتها...

18- الشخصية الكاريزمية لزعيم الحزب رجب طيب أردوجان, و كنت في الفترة السابقة قد لُبس عليّ في أمر *القيادة* بسبب ما قرأت في موضوع العمل الجماعي, إلى أن قرأت هذا الكلام..."خلق الله بعض البشر القليلين الذين لهم قدرة باهرة على قيادة الجموع, و الذين يستطيعون تحريك الطاقات الكامنة في داخل كل إنسان فيحدث التغيير...نعم يُشارك الكثيرون في التغيير, لكن من الذي دفعهم إلى المشاركة, و من الذي حول سلبيتهم المقيتة إلى إيجابية منتجة؟ و من الذي دفعهم إلى التضحية و البذل, بل و من الذي رسم لهم الطريق الذي يسيرون فيه, و وضع لهم الأهداف التي يسعوا إلى تحقيقها؟"


بالتأكيد لم أقصد نقل التجربة كأنها نسخ ضوئية, و لكن فيها من العبر ما حسبت أنه قد ينفعنا...و الله الموفق.

الخميس، مارس 24، 2011

الإرجاء الفكري - بدر بن سعيد الغامدي

لَـمَّا ظهر الإرجاء[1] في عهد السلف، وقف له أهل العلم الراسخون، العالمون بالدليلِ وحقيقةِ القول، وما عـداهم لـم يكن لـه موقـف مشـهود. تشـهد بذلك التـراجم والمصنفــات التـي وصلـت إلينـا؛ فـإنـه متـى ما تخلل النقـص في أحـد هذين الأصـلين: (العـلـم بالـدليـل ومقـاصد الشـريعة) و(حقيقـة القول المخالِف) ترى تخبُّطـاً وخلطاً عجيباً: إما جنايةً على الإسلام وتصويراً له على غير ما أراده اللـه، أو رِفعَةً من قَدْرِ المقالة المخالفة بالتسامح واللين معها مع شناعتها، ومن يمتاز بهذين الأصلين قليل اليوم؛ فإنك ترى من لديه علم بالشرع يصل إلى حدِّ الإحاطة، ولكنه ضعيف في سبر أغوار أقوال المخالفين؛ فلا يستطيع معرفة حقائقها وكشفَ عوار مكنوناتها، وإما أن تجدَ من أُشرِب هذه المقالات على قلَّة بضاعته في العلم الشرعي، فيظهر لك التخليط في كلامه.
وهذا الأخير من جنس بعض رجال أهل الكلام الذين حَسُنَت نيَّتُهم، وساء عملهم، بسبب قلة علمهم بالأدلة الشرعية مع علمهم العميق بأصول علم الكلام، فأرادوا الدفاع عن الدين ولكنَّ قلَّة البضاعة الشرعية لم تُسعِفهم، وفريق منهم تسرَّبت إليه بعض شُبَه القوم، فلم يستطع أن يدفعها، فصار ينضح بها فؤادُه وينمِّقها لسانه، و (كلُّ إناء بما فيه ينضح).
يقول الإمام النخعي: لَفِتنَتُهم عندي أخوَف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة[2]، وصدق - رحمه الله - لأن القعود عن التكليف ترغبه النفس، بعكس تَنَطُّع الخوارج الأزارقة، ونحن نعاني اليوم من تفلُّتٍ من الأوامر، وتقحُّمٍ في المناهي، مع مصيبة أعمُّ وأطمُّ، وهي: تبرير هذا وتسويغه ممن اختل عندهم أحد الأصلين السابقين، وهم منتسبون مع هذا إلى الإسلاميين.
وبرز لنا إرجاء فكري، يحاول مد حبل الوصال مع الطائفتين، على غرار ما فعل الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام بين الفلسفة والإسلام؛ فأراد هؤلاء المحدَثُون: تخفيفَ شناعة بعض المقالات وتهوينها من جهة، ونبذَ التشدد والغلو (بزعمهم) من جهة؛ لينتج لنا حينها - بناءً على رأيهم -: الإسلام الوسطي.
ونحن اليوم في مواجهة سيل من الأفكار الهدامة، يقف النص الشرعي سدّاً أمامها، ومتى ما عُدِمَ النص اجتاح السيل الفكر البشري فأصبحت البشرية حينها أثراً بعد عين، وعدنا كما كنا في ظلمات بعضها فوق بعض.
وهذا لا يكون مع وجود الوحي المنزَّل؛ ولكن الوحي لا يسير على الأرض، بل يحمله {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[الأحزاب: ٣٢].
والإرجاء الفكري هو نوع من الخنوع والضعف أمام هذه المقالات، وصاحبُه عبدٌ لغير مُنْزِل الوحي، أسير لظنونٍ وتخرصاتٍ تكون تارة باسم (المصلحة)، وتارة باسم (المجادلة بالحسنى)، وتارة أخرى باسم (عدم التشدد والغلو)... إلى آخِر هذه القيود والأغلال، التي هي حق أُرِيد بها باطل.
والإرجاء الفكـري اليوم لا يصـرِّح بمقالات الإرجاء القديم، ولكنَّ أفكارَ ذاك القديم تعشِّش في فكر هذا الحديث، والمحصلة واحدة كما سبق، وهي: (التفلت من الأومر، والتقحم في النواهي)[3]، وكما كان أهل الإرجاء القدماء على درجات في مقالتهم، فإن أهل الإرجاء الفكري هم كذلك في فكرهم.
من ملامح هذا الإرجاء الفكري:
أولاً: عدم التصريح بالأحكام الشرعية: فيتهرب مَنْ أصيب بهذا المرض من قول: (حرام) أو (كفر) أو (شرك) لِـمَا هو كذلك بالنص الشرعي، ويستبدل هذه الألفاظ الشرعية بأخرى مبتدَعة هي أخفُّ (حدَّة ووطأة) - بزعمه - على مخالفيه أو الناس عموماً؛ فيقول: (الأَوْلَى تَرْكه) مع علمه بحرمته، أو (فيه خلاف) مع أن الخلاف مطروح وغير معتَبَر؛ فيوحي إلى سامعه أن الأمر (سهل ميسور).
ثانياً: عدم استخدام المصطلحات الشرعية: فلا تجـد في قاموسـه (كفَّـار)، أو (فسَّـاق)، أو (منافقـون)؛ فهـؤلاء لا يعيشون على الأرض، وكأنهم - لدى من أصيب بهذا المرض العضال - تاريخ مندثر ولَّى، ولا يظـن ظـانٌّ بأن المطلـوب هو إقحـام مثـل هذا في الكـلام إقحاماً. لا، ليس هذا المراد، بل المقصود: هو التولي عن استخدام هذا المصطلـح الذي هو شرعي دلَّت عليه النصوص، إلى غيره، فيستخدم (غير المسلمين) أو (الآخر)، أو يستخدم (أهل التقصير) لمن هم رؤوس الضلالة والفجور في الأمة.
ولا يخفى أن المصلطح الشرعي هو الذي لا يُطلَب به بدلٌ، ولا عنه حِوَلٌ؛ لدقة معناه، وعمق مرماه. وقد تكلم أهل العلم كابن تيمية وغيره في أهمية التمسك بالمصطلح الشرعي وأنه يزيل كثيراً من الإشكال.
ثالثاً: الذلة على الكافرين، والكبر على المؤمنين: وهم بهذا يعارضون مراد الله - تعالى - حين حكى حالَ أهل الإيمان، فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ} [المائدة: ٤٥]، وحين أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْـمَصِيرُ} [التوبة: ٣٧]؛ ولكن أهل الإرجاء الفكري تجد لديهم تمام التودد للكفار والزنادقة، ولين الخطاب والتسامح معهم، مع غلظة وشدة وجفوة واستعلاء مع إخوانهم من أهل الإيمان.
رابعاً: كَتْمُ بعض النصوص الشرعية: تلك التي فيها الوعيد والتهديد، أو التي يتوهَّمون شِدَّتها وعنفها كالحدود، فيحاولون تجنُّب ذِكرِها تماماً، والتنصُّـل منها؛ وكأنهـا غير موجودة أصلاً، مع إبرازهم في المقابل للنصوص الشرعية في الوعد والتسامح والعفو، وقد خاطب الله - تعالى - أهل الكتاب، فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: ٥٨].
خامساً: محاولة الوقوع على نقطة التقاء مع أصحاب المذاهب: فيكون أحدهم صامتاً ساكتاً ردحاً طويلاً، والأمة حوله تئن من أعدائها المختلفين في مشاربهم ومذاهبهم، وكلٌّ منهم ينهشها نهشاً، وهو لا يحرك ساكناً؛ فإذا رأى قولاً لصاحب فكر منحرف أو مذهب هدَّام بادر لإعلان الموافقة، وتعاضُدِ الفكرة، وهو في هذا كله يغض الطَّرْف عن الانحرافات الكفرية أو البدعية أو الهدامة؛ فلا ينبه الناس عليها، فيكون عند ذلك الغش الذي يتسرب لعموم المسلمين: أن الشيخ فلان وافق فلاناً فهو على الخير، فنال تزكية لدى عوام الناس؛ فلا يمسُّه بعد هذا نكير، إلا وصاح الناس في المنكِر عليه باطلَه أخذاً بتزكية من أصيب بالإرجاء الفكري من قَبْلُ.
سادساً: الإكثار دوماً من ذكر الخلاف والرخص: إن ذكر الرخصة للناس وتخفيفَ المشقَّة عليهم واجب شرعي؛ فإن الدين دين يُسْر، لكن أن يكون هذا بكثرة، ويكون المراد من ذكر الخلاف دوماً هو نقض الشريعة، وتخيير العامة، وإثارة شكوكِ من لا خَلاقَ له من دينٍ أو علمٍ بأن الشريعة متناقضة؛ فهذا جناية على الدين، ومهما كان مراد صاحب الإرجاء الفكري في هذا التيسير على الناس، فقد أخطأت استُه الحفرة بهذا، حين جنح للإرجاء دون التيسير، ودعا الناس للزندقة بتخييرهم بين أمور الدين، التي يصير بها المرء أخيراً ليس على دين الإسلام؛ فإن من له حظ من علم يعلم أنه لا يحق لمسلم التخيُّر بين أقوال أهل العلم لهوى في نفسه، بل عليه التقليد إن كان جاهلاً، واتباعُ الدليل إن كان عالماً.
سابعاً: غياب الفطنة، ومحاولةُ تأصيل الأفكار الهدامة شرعاً: إن من لازِم الخنوعِ والمسكنةِ الفكرية، وعدمِ الاعتزاز بالشرع الإسلامي في جميع مناحي الحياة، أن يصبح هذا المصاب بالإرجاء الفكري، مسوِّغاً لمشاريع التيارات المنحرفة، مسبغاً عليها مظلة شرعية، خادعاً بها الراعي والرعية؛ فيسألونه (أو ربما تبرع هو محتسباً) لبيان حكم عمل المرأة - مثلاً - وأنه كشرب العسل، مع أن أهل الأهواء لا يريدون عمل المرأة لذاته، بل لما وراءه من إخراج المرأة المسلمة، وإفسادها؛ وهل جادل أحد من أهل العلم في عملها مع الضوابط حتى يحتسبَ هذا المصابُ بالإرجاء الفكري لبيان الحكم؟ ولنا في ابن عباس - رضي الله عنهما - قدوة حسنة حين سأله من في عينيه شرر عن توبة القاتل، فقال له: لا تُقبَل، وسأله من في سيفه دم عنها، فقال: تُقبَل. فسأله من حوله عن هذا، فقال: علمت أن ذاك إن قلت له: يقبلها الله، ذهب فسفك دماً حراماً، وأن الآخر أتاني نادماً فلم أقنِّطه.
ويقول الشـيخ أحمـد شـاكر - رحمه اللـه - في هذا الباب: «لا يزال كثيـر من النـاس يذكـرون ذلـك الجـدال الغريب الذي ثار في الصحف بشأن الخلاف في جواز ولاية المرأة القضاء. والذي أثار هذا الجدال هو وزارة العدل؛ إذ تقدَّم إليها بعض (البنات) اللاَّئي أُعطِينَ شهادة الحقوق، ورأين أنهن بذلك صرن أهلاً لأن يكنََّ فــي مناصب النيابة، تمهيداً لوصولهن إلى ولاية القضــاء. فــرأت الوزارة أن لا تستبد بالفصل في هذه الطلبات وحدَها، دون أن تستفتي العلماء الرسميين.
وذهب العلماء الرسميون يتبارَوْن في الإفتاء، ويحكون في ذلك أقوال الفقهاء؛ فمِنْ ذاكرٍ مذهب أبي حنيفة في إجازة ولايتها في الأموال فقط، ومِن ذاكرٍ المذهب المنسوب لابن جرير الطبري في إجازة ولايتها القضاء بإطلاق، ومِن ذاكرٍ المذهب الحق الذي لا يُجوِّز ولايتها القضاء قط، وأن قضاءها باطلٌ مطلقاً، في الأموال وغير الأموال.
سألت وزارةُ العدل العلماءَ فأجابوا. ولستُ أدري لِمَ أجابوا؟ وكيف رضوا أن يجيبوا في مسألة فرعية، مبنيَّة على أصلين خطيرين من أصول الإسلام، هدمهما أهل هذا العصر، أو كادوا؟ ولو كنتُ ممن يُسأل في مثل هذا، لأوضحت الأصول، ثم بنيتُ عليها الجواب عن الفرع أو الفروع؛ فإن ولاية المرأة القضاء في بلدنا هذا، في عصرنا هذا، يجب أن يسبقها بيان حكم الله في أمرين بُنيتْ عليهما بداهةً:
أولاً: أيجوز في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتَبَس عن تشريعات أوروبة الوثنية الملحدة، بل بتشريع لا يبالي واضعه: أوافق شِرعَة الإسلام أم خالفها؟ ويصرحون – ولا يستحيون - أنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين، وأنتم ترون ذلك وتعلمون... أفيجوز مع هذا لمسلم أن يعتنق هذا (الدين) الجديد؛ أعني: (التشريع) الجديد؟ أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلُّم هذا واعتناقِه واعتقادِه والعملِ به، ذَكَراً كان الابن أو أنثى، عالماً كان الأب أو جاهلاً؟
وثانياً: أيجوز في شرع الله أن تذهب الفتيات في فورة الشباب إلى المدارس والجامعات، لتدرس القانون أو غيره - سواء مما يجوز تعلُّمه ومما لا يجوز - وأن يختلط الفتيان والفتيات هذا الاختلاط المعيب، الذي نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله.
أيجوز في شرع الله هذا السفور الفاجر الداعر، الذي تأباه الفطرة السليمة والخُلُق القويم، والذي ترفضه الأديان كافة على الرغم مما يظن الأغرار وعبََّاد الشهوات؟ يجب أن نجيب عن هذا أولاً، ثم نبحث بَعْدُ فيما وراءه؛ ألا فَلْيُجبِ العلماء وليقولوا عما يعرفون، وليبلِّغوا ما أُمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين.
سيقول عني عبيد (النسوان) الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا: إني جـامد، وإني رجعـي، وما إلى ذلـك من الأقـاويل، ألا فَلْيقـولوا ما شـاؤوا، فما عبَأْت يوماً مَّا بما يقال عنِّي، ولكني قلت ما يجب أن أقول»[4].
وإنما أطلت في هذا؛ لفشوِّه اليوم بين طلبة العلم، وموافقته لشهوة الرياسة وحبِّ الظهور، وما علم المسكين (صاحب الإرجاء الفكري) أن من كذا حاله رُمِي بعد إتمام الغرض منه، وكَثُر ذامُّوه وقلَّ حامدوه أو عُدِمُوا، وأعظم من هذا: أن الله هو الذي مَدْحُه زين وذمه شين، وإذا أحب الله عبداً أمر جبريل أن يحبه فيحبه، ثم ينادي في الملائكة: أن الله يحب فلان فأحبوه، فيحبونه[5]، و «من ابتغى رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عليه الناس، ومن ابتغى سخط الله برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس»[6].
ومن تمسك بالنص الشرعي، وأذعن له فكرُه، وخضع له عقلُه، نجا من هذا الإرجاء، مع تعلُّقٍ بفهم السلف الصالح لا سواه، والبعد عن المحدَثَات الفكرية، أو محاولة تطويع الدين بما لم يأذن به الله، والعلم النظري بأننا في زمن الفتن كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «فتن كقِطَع الليل المظلم، يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا قليل»[7]، ثم تطبيق هذا العلم النظري، مع دعاء الله الثبـات؛ كما كـان يفعل - صلى الله عليه وسلم - حينمـا يُكثِر مـن قـول: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك»[8]، ويسأل الله حُسْن الخاتمة.
أسأل الله لي ولك حُسْن الخاتمة.
________________________________________
[1] المرجئة طوائف يجتمعون في إخراج العمل عن مسمى الإيمان، وظهروا في أواخر عهد الصحابة، انظر الملل والنحل للشهرستاني: 1/139 ومجموع الفتاوى: 7/297 فما بعدها.
[2] مجموع الفتاوى: 7/394.
[3] سبق ذكر أن المرجئة درجات، ومنهم وإن كان يُخرِج العمل عن مسمى الإيمان؛ إلا أنه يحرص على العمل ويحث عليه ويحتفي بأهله كمرجئة الفقهاء.  
[4] انظر جمهرة مقالات أحمد شاكر: 2/591 فما بعدها.
[5] انظر: صحيح البخاري ، وصحيح مسلم، (2637).
[6] انظر: سنن الترمذي، (2414). قال الشيخ الألباني: صحيح، وصحيح ابن حبان، (276). قال عنه الأرنؤوط: إسناده حسن.
[7] أخرجه مسلم، (118).
[8] سنن ابن ماجة، (3834)، والترمذي، (2140) ،وصححه الألباني في تعليقه عليه.

الثلاثاء، يناير 18، 2011

الجيل المتطرف -- عبد الرحمن العشماوي

صبح تنفس بالضياء وأشرقا الصحوة الكبرى تهز البيرقا
وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا
وقوافل الإيمان تتخذ المدى دربا وتصنع للمحيط الزورقا
وحروف شعري لا تمل توثبا فوق الشفاه وغيب شعري أبرقا
وأنا أقول وقد شرقت بأدمعي فرحا وحق لمن بكى أن يشرقا
ما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا
هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا
هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا
فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يدا سدت علينا المشرقا
يا نهر صحوتنا رأيتك صافـيا وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى
ورأيت حولك جيلنا الحر الذي فتح المدى بوابة وتألقا
قالوا تطرف جيلنا لما سما قدرا وأعطى للبطولة موثقا
ورموه بالإرهاب حين أبى الخنى ومضى على درب الكرامة وارتقا
أو كان إرهابا جهاد نبينا أم كان حقا بالكتاب مصدقا
أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا
إن التطرف ما نرى من غفلة ملك العدو بها الزمام وأطبقا
إن التطرف ما نرى من ظالم أودى بأحلام الشعوب وأرهقا
لما رأى جريان صحوتنا طغى وأباح أرواح الشباب وأزهقا
ما زال ينسج كل يوم قصة تروى وقولا في الدعاة ملفقا
إن التطرف أن يسافر مسلم في لهوه سفرا طويلا مرهقا
إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأبرقا
إن التطرف أن نبادل كافرا حبا ونمنحه الولاء محققا
إن التطرف أن نذم محمدا والمقتدين به ونمدح عفلقا
إن التطرف أن نؤمن بطرسا وهو الذي من كأس والده استقى
إن التطرف وصمة في وجه من جعلوا صليبهم الرصاص المحرقا
إن التطرف في اليهود سجية شربوا به كأس العداء معتقا
إن التطرف أن يظل رصاصنا متلعثما ورصاصهم متفيهقا
يا من تسائلني وفي أجفانها فيض من الدمع الغزير ترقرقا
وتقول لي رفـقا بنفسك إننا نحتاج منك الآن أن تترفقا
أو ما ترى أهل الضلالة أصبحوا؟ يتعقبون شبابنا المتألقا
لا تجزعي إن الفؤاد قد امتطى ظهر اليقين وفي معارجه ارتقى
غذيت قلبي بالكتاب وآيه وجعلت لي في كل حق منطقا
ووطئت أوهامي فما أسكنتها عقلي وجاوزت الفضاء محلقا
أنا لا أخدر أمتي بقصائد تبني على هام الرياح خورنقا
يسمو بشعري حين أنشد صدقه أخلق بمن عشق الهدى أن يصدقا
أوغلت في حزني وأوغل في دمي حزني وعصفور القصيدة زقزقا
أنا يا قصيدة ما كتبتك عابثا كلا ولا سطرت فيك تملقا
عيني وعينك يا قصيدة أنورا دمعا وشعرا والفؤاد تحرقا
قالوا قسوت ورب قسوة عاشق حفظت لمن يهوى المكان الأعمقا
بعض الرؤوس تظل خاضعة فما؟ تصحو وما تهتز حتى تطرقا
خوان أمته الذي يشدو لها بالزيف والتضليل حتى تغرقا
خوان أمته الذي يرمي لها حبلا من الأوهام حتى تشنقا
كالذئب من يرمي إليك بنظرة مسمومة مهما بدا متأنقا
شتان بين فتى تشرب قلبه بيقينه ومن ادعى وتشدقا
شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تمذقا
إني لأعجب للفتي متطاولا متباهيا بضلاله متحذلقا
سلك العباد دروبهم وهو الذي ما زال حيران الفؤاد معلقا
الشمس في كبد السماء ولم يزل في الشك في وضح النهار مطوقا
النهر يجري في القلوب وماؤه يزداد في حبل الوريد تدفقا
وأخو الضلالة ما يزال مكابرا يطوي على الأحقاد صدرا ضيقا
يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا
لك من كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا
لك في رسولك قدوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا
يا جيل صحوتنا ستبقى شامخا ولسوف تبقى بالتزامك أسمقا
سترى رؤى بدر تلوح فرحة بيمينها ولسوف تبصر خندقا
سترى طريقك مستقيما واضحا وترى سواك مغربا ومشرقا
فتحت لك البوابة الكبرى فما نخشى وإن طال المدى أن تغلقا
إن طال درب السالكين إلى العلا فعلى ضفاف المكرمات الملتقى
وهناك يظهر حين ينقشع الدجا

من كان خوانا وكان المشفقا

المصدر: الموسوعة العالمية للشعر العربي

الجمعة، ديسمبر 10، 2010

راجع ما كتبته في البرنامج قبل لوم الآخرين

بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد...
لازلنا مع كتاب "97 مسألة ينبغي على كل مبرمج أن يعلمها"....

9- راجع ما كتبته في البرنامج قبل لوم الآخرين
  • يعتقد الكثير من المبرمجين أن برامجهم لا يمكن أن يكون بها أخطاء! بل يسيئون الظن بالمترجمات compilers و أنظمة التشغيل operating systems ... إلخ و يحسبون - في كثير من الأحيان - أنها سبب المشاكل في برامجهم!
  • و الحق أن المترجمات compilers و أنظمة التشغيل operating systems و مكتبات البرمجة الجاهزة software libraries ... إلخ هي برمجيات في النهاية, و لذلك من الوارد أن يكون فيها أخطاء, خاصة إذا كانت في مراحل تطويرها الأولية alpha or beta releases. أما إذا كانت هذه البرمجيات ناضجة mature, و مستخدمة بكثرة, و هناك الكثير من البرمجيات التي تعتمد عليها, فالأخطاء في مثل هذه البرمجيات تكون نادرة جدا, و من الأجدى - في مثل هذه الحالة - أن تبحث عن المشكلة في برنامجك أنت.
  • فمثلا إذا علمت بوجود مشكلة في برنامجك, اعرف خطوات الاستخدام التي أدت إلى حدوث هذه المشكلة, قد يكون برنامجك استُخدم بطريقة لم تحسب لها حسابا, أو بخطوات غير التي توقعتها!
  • و من أكثر مصادر المشاكل في البرامج: تعدد المسارات multi-threading, و طرق اكتشاف المشاكل debugging و اختبارات فحص الوحدات unit test وحدها لا تكفي لاكتشاف مصادر المشاكل في مثل هذه الحالة؛ و لذلك فالحاجة هنا إلى تبسيط تصميم البرنامج و برمجته تكون أكثر إلحاحا.
يمكن قراءة النص الأصلي من هنا

الجمال في البساطة

بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد...
لازلنا مع كتاب "97 مسألة ينبغي على كل مبرمج أن يعلمها" ...

5- الجمال في البساطة
  • البرمجة الجميلة لها مظاهر عدة, أهمها "البساطة", فبغض النظر عن كبر البرنامج أو تعقيده, إذا كانت أجزاء البرنامج "بسيطة": صغيرة, و لها مسئوليات محدودة, و أسماء معبرة, و ترتبط ببعضها بروابط بسيطة أيضا, فالبرنامج جميل!
  • و البساطة في البرمجة لها مميزات أخرى, منها أن البرنامج البسيط يكون سهل الفهم, سهل الاختبار testable, و سهل الصيانة maintainable كذلك.
يمكن قراءة النص الأصلي هنا

السبت، نوفمبر 27، 2010

عرض كتاب نقد الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية


بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد...

كتاب "نقد الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية", ألفه الأستاذ الدكتور محمد علي مفتي, و طبعته مجلة البيان سنة 1423 هـ / 2002م.
و قد استهل المؤلف بحثه بقول الله عز و جل "أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" [المائدة: 50] و ختمه بقوله "فلا ديمقراطية في الإسلام, و لا إسلام في الديمقراطية" و بين الاستهلال و الخاتمة كتب بحثا ماتعا في 118 صفحة, لخصه في خاتمة الكتاب, في آخر ثلاث صفحات, فقال (بتصرف يسير جدا):

قدمت الدراسة تحليلا نقديا للجذور الفكرية للديمقراطية الغربية؛ بهدف بيان أن الديمقراطية نظام سياسي قائم على مرتكزات, و مرتبط بشروط محددة لا بد من وجودها لتتحقق الديمقراطية. و قد ناقشت الدراسة أهم تلك القواعد أو المرتكزات و التي منها:
  • "سيادة الأمة"؛ أي حق الأمة المطلق في تبني نظام الحياة الذي تراه مناسبا من منطلق كونها تمثل المرجعية العليا في الدولة,
  • و "الحل الوسط" الذي يعد أسلوبا دائما لحل جميع المشكلات في الدولة. و يرتبط "الحل الوسط" بالعلمانية التي يقوم عليها النظام الديمقراطي. و ينطلق من افتراض أن مصالح المرء المتعلقة بالمباديء و القيم و المصالح المادية لا بد أن تسوى بـ "الحل الوسط" عند نشوء نزاع في الدولة بين الأفراد. و هذا يعني بالضرورة عدم فرض قيم اجتماعية أو عقيدية على المجتمع؛ لأن ذلك يؤدي إلى الاستناد إلى المرجعية العقيدية أو الأخلاقية في حل المشكلات الاجتماعية, و هو ما يتعارض مع ديمقراطيات الحل الوسط.
  • أما "الحرية": التي تمثل جوهر الديمقراطية فتقوم على النظرة الفردية للإنسان, و على جعله المرجعية العليا في الدولة.و تتحق حرية المرء في النظام الديمقراطي عن طريق إقرار "حرية العقيدة"؛ أي حيادية الدولة تجاه العقيدة, و هي تعني حق الأفراد في تبني ما يشاؤون من عقائد دون تدخل من أحد. و "حرية الرأي" التي تعني - كذلك- حق الأفراد في تبني ما يرغبون من أفكار و مفهومات و معالجات. و قد انبثق عن حرية الرأي "التعددية السياسية"؛ لتعبر عن حق الجماعات المختلفة عقديديا و فكريا في العيش المشترك, و في التنافس السياسي للوصول للسلطة انطلاقا من قاعدة تادول السلطة بين الجماعات المختلفة التي تقوم عليها التعددية السياسية.
و قد بينت الدراسة أن الديمقراطية نظام قائم على "فصل الدين على عن الدنيا". و تؤكد قواعد الديمقراطية - المشار إليها أعلاه - علمانية النظام, فجعل الفرد المرجعية العليا في النظام مرتبط بإنكار هيمنة الدين على شؤون الحياة, و بناء الدولة على الحرية و الحل الوسط يدل على أن الدولة الديمقراطية تختلف عن غيرها بحياديتها العقيدية و بفسحها المجال لحرية الرأي لكل أفراد المجتمع.
فالحرية في تبني الآراء و الدعوة إليها - أيا كان مصدرها و نوعها - مكفولة للجميع في ظل النظام الديمقراطي. كما يعبر الحل الوسط بصدق عن علمانية النظام الديمقراطي؛ و ذلك بإخضاع كل شؤون الدولة للمساومة؛ حيث تخضع جميع القرارات - العقيدية منها و الأخلاقية و المصلحية - للحل الوسط الذي يعد ركيزة رئيسة من ركائز الديمقراطية الغربية العلمانية.
و نظرا لما للفكر الديمقراطي من أثر على الساحة السياسية و على الكتاب و المفكرين المسلمين؛ فقد قدمت الدراسة تحليلا لمواقف عديد من الإسلاميين و الحركات الإسلامية من الديمقراطية. و قد تبين أن [الكثير من] (في الأصل: معظم) الكتاب و المفكرين الإسلاميين المعاصرين ينادون بتبني الديمقراطية؛ إما بالقول بأن تبني الديمقراطية يعد ارتكابا لأخف الضررين, فالديقراطية العلمانية "أقل شرا" من العلمانية الاستبدادية, كما يقولون. أو بالقول بأن الديمقراطية لا تعارض الشريعة الإسلامية, أو بإلباسها ثوبا شرعيا و جعلها جزءا من تعاليم الشرع الإسلامي. و قد أدت المناداة بتبني الديمقراطية إلى إقرار القواعد السياسية التي تقوم عليها كالتعددية السياسية, و التعددية الحزبية, و المشاركة في السلطة, و تداول السلطة عن طريق الانتخابات الدورية.
و بناء على ما سبق؛ نادى الإسلاميون الديمقراطيون بضرورة التعددية السياسية المتمثلة في إفساح المجال لكل التيارات السياسية في لعب دور في الساحة السياسية انطلاقا من حق الجماعات المتبياينة عقيديا في الوجود و في التعايش مع غيرها, و حقها في التنافس من أجل الوصول إلى السلطة. و قد أدى هذا الموقف من التعددية إلى المناداة يالتعددية الحزبية؛ أي إقرار وجود أحزاب سياسية شيوعية و علمانية و غيرها في المجتمع, و السماح لها بالمشاركة في الانتخابات, و في طرح برامجها للتصويت عليها من منطلق حقها في الوجود في مجتمع تعددي.
و قد بينت الدراسة خطأ جعل الديمقراطية أساسا للعمل من أجل استئناف الحياة السياسية الشرعية. فالدولة الإسلامية دولة شرعية يقوم نظامها على تطبيق أحكام الإسلام في واقع الحياة من منطلق سيادة الشرع, و ليس على التعددية أو الحرية السياسية. و في نظام الإسلام السياسي لا يجوز إقرار التعددية الحزبية أو السياسية بالمفهوم الغربي لتعارض ذلك مع قواعد الإسلام السياسية, و الدولة الإسلامية لا تقوم بالرجوع إلى الديمقراطية العلمانية بل بالرجوع إلى أحكام الإسلام و معالجته السياسية المتعلقة بنظام الحكم الشرعي, و غياب نظام الإسلام السياسي لا يجوز أن يؤدي إلى تبني النظام الديمقراطي العلماني مهما سيقت له من حجج و قدمت له من مقدمات؛ ذلك لأن الديمقراطية, و العلمانية, و الاستبداد السياسي, و الدكتاتورية و أنظمة الطغيان كلها "طاغوت" لا يقره الشرع الإسلامي, و لا يدعو إليه بحال من الأحوال.
و قيام بعض الإسلاميين بالدعوة إلى الديمقراطية و تسويغ تبنيها يتقريبها من الإسلام لا يدل بحال على أن الإسلام يجيز تبني الديمقراطية؛ "فلا ديمقراطية في الإسلام, و لا إسلام في الديمقراطية". ا.هـ.